قصة بائع البرتقال

لغة القصة : فصحى – مصرية

كان شتاء ١٩٩١ وكانت ليلةٌ باردة والساعة تقترب من منتصف الليل وأنا عائداً من يوم عملٍ طويل وعندما إقتربتُ من منطقة بين السرايات رأيتُ محلات الفاكهه كثيرة وكبيرة والأنوار تخرج منها تُضيئ المكان كله وكأننا نهاراً وأصحاب المحلات بين ذهابٍ وإياب … داخل وخارج محلاتهم. وكانت أغلب الفاكهه المعروضة هى البرتقال وفوقها السعر بخط كبير جنيه للكيلو

أنا لا أميل كثيراً للبرتقال لأنه يذكرني بالبرد والزكام فهو لي دواء أكثر منه فاكهة ولكنه اليوم كان له بريق ذهبي والأضواء تنعكس على سطحه الأملس فتزيده بريقاً ولمعاناً وكان بأجمل حال وكأنه مازال على الاشجار لست أدري لماذا فى هذه الليلة إشتقتُ إلى البرتقال وقررت شراء قليلاً منه ونادراً ما أفعل

دخلت بالسيارة فى شارع جانبي ضيق مظلم خالي من المارة وتركت السيارة ونويت الذهاب الى تلك المحلات الكبيرة الصاخبة التى أبهرني برتقالها وهنا رأيت بائع يقف بعيداً على جانب هذا الشارع المُعتم وكان أمامه مصباح صغير يخرج منه ضوء خافت فإقتربت منه فوجدت أمامه عربة صغيرة عليها قليل من البرتقال بلا بريق ولا لمعان ولا حتى سعر والبائع يجلس على مقعد خشبي فى سكون حتى عندما رأني أقترب ‘”وأنا المفروض زبون” لم يتحرك ولم يُعيرني إهتمام. قلت لنفسي لعله بائع مسكين مُجهد طوال اليوم وأكيد يريد أن يتخلص مما تبقى معه من البرتقال ليذهب لبيته يستريح ولعلي أشتري منه البرتقال بسعر أرخص فإقتربت منه وسألته

ْ بكام البرتقان يا حاج

ْ بجنيه وربع

فسألته فى إستغراب “الكيلو” فجاوبني بسخرية

ْ لأ الفدان .. طبعاً الكيلو

كان هذا الجواب منه يكفي لأن أتركه وأمضي ولكننى وجدتُ نفسي مرغماً على إكمال الحديث معه قائلاً

ْ ياحاج البرتقان على الشارع الرئيسي بجنيه واحد

ْ خلاص روح هات من هناك يابيه

ْ بس أنا عايز أشتري منك

ْ يبقى بجنيه وربع

ْ ياحاج ده حتى البرتقان دبلان وفيه كام واحده بايظه

ْ هو كده … البرتقان الدبلان بجنيه وربع

ْ قول سعر كويس وأنا أشتري كل البرتقان اللى معاك

ْ كله .. نصه .. هوه بجنيه وربع

ْ ياحاج أنا لو مشيت .. مش قبل سنتين عشان واحد تاني يعدي عليك ويشتري البرتقان ده

ْ البرتقان له صاحبه يابيه وهايشتريه بجنيه وربع

ْ هاود شويه ياحاج .. ده إحنا فى أخر اليوم

ْ يابيه اليوم لسه بخيره وأنا مش مستعجل على الرزق

ْ ياحاج ده إحنا بقينا بكره بيع وخلص

ْ يابيه انا مابحبش الفصال هوه بجنيه وربع عايز ولا مش عايز

لست أدري ماذا حدث لي .. تملكني الغيظ والعناد حتى إنني لم أعد أستطيع أن أتركه وأذهب وكأن أمري ليس ملكي فقلت له ودمي يحترق

ْ يا حاج مافيش أى سبب يخليني أشتري منك برتقانه واحده .. إعمل اى حاجه عشان أشتري منك .. بلاش تنزل السعر.. طب إتحايل عليه .. إستعطفني … قولى عشان خاطر ولادك الغلابة

أدار الرجل وجهه عني وقال لي دون ان ينظر إليّ

ْ يابيه انا ماعنديش برتقان للبيع

إنفجرت غيظاً وأنا لا أفهم منطق الرجل ووجدت نفسي رغماً عني أتجاهل كل أسباب البيع والشراء ونظرت إلى الرجل في عينيه قائلاً له

ْ يعنى ايه… هوه عند…طب بالعند فيك انا هاشتري .. وهاشتري بجنيه وربع .. وهاشتري البرتقان كله .. وهاشتري البايظ كمان .. طالما هيه عند بقى

راح الرجل يزن البرتقال وكأنه مضطراً او مُجبراً وأنا لا أدري لماذا هو لا يريد ان يبيع بل إنني لا أدري لماذا أنا أُصر على الشراء

فقلت له وهو يعطيني كيس البرتقال ووجهه مازال متجهماً

ْ تصدق وتآمن بالله البيعة دى تمت ليه .. عشان إنت مابتعرفش تبيع وأنا مابعرفش أشتري فمشيت معانا

وأخذت البرتقال عائداً إلى بيتي وأنا لا أفهم كيف أن هناك رجلاً يجلس فى شارع ضيق مظلم بمنطقة خالية فى منتصف ليلة شتاء باردة يبيع سلعة ليست جيدة وبسعر غالى ثم ينتظر الرزق. نظرت إلى كيس البرتقال الذى يجلس بجواري فى هدوء وسكينة والبلل بدأ يصيبه من البرتقال الفاسد وقد مال الكيس قليلاً نحوي وكأنه يريد ان يقول لي شيئاً … وهنا تنبهت فجأه .. بأن الله فعلاً قد رزق الرجل … حقًا الرجل لا يحسن البيع فأرسل الله رزقه مع رجل لا يحسن الشراء.

فكنت اذا إشتدت بي الليالي وكثيراً ما تشتد أنظر الى السماء مبتسماً وأدعو …

اللهم أرزقني كما رزقت بائع البرتقال رغماً عن أنفه